من الذي بنى أقدم مسجد في أمريكيا؟.. هذه قصته
قاد ريتشارد عمر شاحنته عبر بوابة الجبانة وتوقف بجوار القبور، ثم مشى إلى أحد الشواهد الرخامية ووضع باقة من الزهور عليه قائلاً: “هذا قبر والديَّ”.
كان ريتشارد يحيي جزءًا من التاريخ الأميركي بينما يقوم بوضع الزهور على قبر والديه. فهذه الجبانة التي تتميز برمز الهلال على بوابتها، تحوي الكثير من قبورها رفات مجموعة من المسلمين عاشوا في الولايات المتحدة منذ نحو 120 عاماً، ويطل عليها من أعلى التلة أقدم مسجد في الولايات المتحدة.
كان المسجد الأصلي قد أنشأه مسلمون من سوريا ولبنان عام 1929، وبعد أن تدهورت حالته وتهدم، قام أبناؤهم مع بعض الأصدقاء من المسيحيين بجمع المال لبناء مسجد جديد مكانه في 2005، وفق تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، الإثنين 30 مايو 2016.
رمزاً للتراث الإسلامي
المسجد عبارة عن مربع صغير من الطوب الإسمنتي، يبلغ طول ضلعه 15 قدماً، وتعلوه قبة من الألومنيوم و4 مآذن. يقع المسجد والجبانة على بعد عدة مئات من الأمتار عن الطريق السريع الرئيسي، على مشارف بلدة لا يزيد عدد سكانها على 200 نسمة، تبعد 60 ميلاً عن مينوت باتجاه الغرب، وتحيط بهما حقول القمح والذرة وأراضي الرعي. تشعر بأنه في بقعة بعيدة كل البعد عن ضجة داكوتا الشمالية الصناعية الصاخبة.
بالرغم من أن المسجد نادراً ما يستخدم لإقامة الشعائر الدينية، حتى في شهر رمضان، إلا أنه يظل رمزاً قوياً للتراث الإسلامي في المنطقة، خاصة في ظل الصراع الانتخابي الذي يُعتبر المهاجرون المسلمون من عناصر الجدال فيه. فالمسجد الموجود في تلك البقعة النائية يشهد على أن المسلمين موجودون في الولايات المتحدة منذ زمن طويل، ليس فقط في المناطق الشعبية في بروكلين أو ديربورن أو الضواحي الغربية لشيكاغو.
بحثاً عن حياة جديدة
قدم والد ريتشارد إلى الولايات المتحدة مثل الملايين من المهاجرين، وبحلول عام 1920، كان قد استقر في “روس” من ضمن 200 مهاجر آخرين، وكان تعداد سكانها في ذلك الحين لا يتجاوز 8500 نسمة.
أشار ريتشارد إلى مساحة من الأرض على جانب الجادة 87 شمال غرب، وقال: “أعتقد أنه كان هناك. كان والدي يمتلك عدة أحصنة يساعد بها المزارعين على إخراج الحجارة من التربة”.
كان عمر الأب قد هاجر إلى أميركا من قرية البيرة في سهل البقاع، وهو الآن في لبنان، وكان اسمه عبدالله عياش. بعد أن جمع بعض المال من العمل في مصانع هنري فورد، انتقل للعيش في روس، واشترى 120 فداناً في يونيو/حزيران عام 1911. بعد ذلك غيّر اسم العائلة إلى عمر، ثم تخلى عن اسم عبدالله وسمى نفسه ألبرت.
قال ريتشارد، وهو يمشي بين المقابر، مشيراً إلى المزارع المحيطة: “لقد جاء كل هؤلاء منذ زمن بعيد بحثاً عن حياة جديدة. كان يعيش هنا ألاي عمر، وهناك سام عمر، وهم ليسوا من أقربائي”.
توضح الأسماء التي نقشت على القبور مدى الاندماج المجتمعي، فبين أسماء جمعة وعمر تجد أيضاً بعض أفراد من عائلات ميلر وهورست ممن جاء بهم الزواج إلى مقابر المسلمين.
يمكنك أن ترى هناك قبر ج. د. بنسون، زوج امرأة من أسرة مسلمة، وعلى القبر صورة لهما معاً على ظهر الحصان. كما نقشت على قبر أليكس إسماعيل ذكرى خدمته العسكرية في الحرب العالمية الأولى. وضعت صورة لإبراهام عمر (1933-2004) على شاهد قبره وهو يرتدي الملابس الأميركية، في صورة تصلح للدعاية عن فيلم “جريس” Grease.
داخل المسجد توجد سجادة صلاة تتجه نحو الشرق، إلى القبلة، كما توجد أيضاً بعض صور للمقيمين المسلمين الأوائل، منهم والد ريتشارد. قام ريتشارد بإزالة خيوط العنكبوت التي تغطي الأركان.
ربما يعتبر وجود المسجد والجبانة في هذا الموقع، رغم ندرة استخدامهما، مفيداً للمسلمين. ففي ظل الحملة الانتخابية يطالب مرشحها بمنع هجرة المسلمين لأميركا، وتنامي عدد جرائم الاعتداء على المسلمين ومؤسساتهم، تظل تلك البقعة شاهدة على وفود المسلمين إلى الولايات المتحدة مع وفود النرويجيين والسويديين والألمان والبولنديين واليهود الذين انضموا للمجتمع الأميركي في نفس الفترة.
لم تكن الأمور ميسّرة طوال الوقت، فقد ذكر كتاب “Prairie Peddlers” عن المهاجرين السوريين واللبنانيين في داكوتا الشمالية أنهم كانوا يعانون من نظرة المجتمع العنصرية في بعض الأحيان، وأحياناً كانوا يعتبرون من “السود”.
كما تم تسريح بعض المسلمين الذين التحقوا بالخدمة العسكرية في الحرب العالمية الأولى بسبب الاشتباه في عدم ولائهم، وذلك لأنهم أتوا من بلاد تحت حكم الدولة العثمانية، التي كانت في ذلك الحين عدواً في الصراع العالمي.
يقول كينيث هالفورسون، زميل ريتشارد عمر في الدراسة، رئيس شرطة مقاطعة ماونتريل: “هؤلاء جزء من مجتمعنا. أحياناً يواجهون المشاكل بسبب جنسيتهم الأصلية، ولكن ليس هنا. نحن نعرف أنهم أناس مجتهدون وطيبون”.
حين يسمع المسلم الأميركي العادي عن تاريخ هذا المسجد يعتبره من المعالم البارزة التي تؤكد الوجود الإسلامي في الولايات المتحدة. في عام 2010 قرر أمان علي (31 عاماً)، من أصل هندي، هو وصديقه بسام طارق (المخرج)، أن يزورا مسجداً كل يوم على مدار 30 يوماً في رمضان.
لم يستطع الشابان العثور على المسجد حتى مع استخدامهما GPS. قام القس المحلي بتعريفهما على ليلى ثورلاكسون، ابنة إحدى عائلات عمر، والمتطوعة للعناية بالمسجد. يقول أمان علي إن صلاته في ذلك المسجد غيّرت حياته.
كتب أمان في رسالة إلكترونية: “إن إدراك أن المسلمين موجودون في هذا البلد من القرن التاسع عشر يشعرني بأني آخر فصل في قصة تكتب عن مجتمعنا الجميل. لأول مرة أشعر بأني أنتمي لهذا المكان”.
في عام 2015، توفي كوبي ناي سواح في حادث سيارة بالقرب من حدود الولاية في مونتانا. كان مسلماً، وُلد في غانا ونشأ في فلوريدا. تم الترتيب لدفنه في مدافن روس، في موقع بالقرب من 3 شجرات صنوبر زُرعت لصد الرياح.
يحتفظ ريتشارد بسجلات تلك المقابر التي تحتوي على المواقع المتاحة للدفن. ولكن في الواقع، قليل منها سيستخدم بالفعل. فلقد كانت سارة عمر شوب، التي دفنت هناك في عام 2004، آخر أفراد المجتمع التي تتحدث العربية وتقرأ القرآن.
ومنذ اجتياح العواصف الترابية المنطقة في الثلاثينيات من القرن العشرين، ما تسبب في جفاف الزراعات، يترك عدد من المسلمين المدينة كل عام بحثاً عن فرص اقتصادية أفضل، وقد توفي كثير ممن بقى وتحول بعضهم للمسيحية من أجل الزواج. تزوج ريتشارد من امرأة من أصول اسكندنافية، وهو لا يمارس شعائر الإسلام، وليس متأكداً حتى ما إذا كان سيدفن في هذه المقابر التي يقوم برعايتها.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The New York Times الأميركية .