
عشر ذي الحجة والمفهوم الشامل للعمل الصالح
د. طلعت فهمي
المتحدث الإعلامي باسم جماعة الإخوان المسلمين
تمر علينا هذه الأيام المباركة بنفحاتها وفيوضاتها الكريمة ، فتشحذ العزائم وتدفع القلوب والجوارح إلى مزيد من العمل ، فتتزكى القلوب وتنسجم الجوارح مع مقصود الخالق من الخلق ، وقد يقتصر البعض منا على مداخل من العمل الصالح دون غيرها ، بينما حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يذكر فيه فضل هذه اللحظات ، بما سبقت به غيرها من الأوقات والأزمان يشتمل على معان أعمق وأوسع وأكثر رحابة.
يقول صلي الله عليه وسلم: ” ما من عمل أزكى عند الله عز وجل، ولا أعظم أجراً من خير يعمله في عشر الأضحي قيل ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذالك بشيء
وقد دعا الله رسله للعمل الصالح فقال: ” َيأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ، وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ” وقد تضمن نداء الله سبحانه للرسل: الدعوة إلي أكل الطيبات والعمل الصالح الذي يستهدف أمة الجسد الواحد العابدة لله؛ ليكون العمل الصالح ممتداً عبر الزمان والمكان ليشمل الأمة والإنسانية متجاوزًا العنصريات والقوميات والعقبات .
وعندما سمع الرسل النداء سارعوا لتنفيذ أمر ربهم في ميدان العمل الصالح بمفهومه الشامل فذهب موسى إلي فرعون الذي طغي صادعاً بالحق ” أن أرسل معي بني إسرائيل ولا تعذبهم ” و انطلق نوح إلى قومه ” أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون” وواجه هود قومه “أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله و أطيعون ” ونصح صالح قومه “فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ” وتصدى لوط لقومه “بل أنتم قوم عادون …….إني لعملكم من القالين ” ولم يتخلف شعيب عن ركب المرسلين ” أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ” ، أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقال ” اعملوا فلن أغني عنكم من الله شيئاً “.
وقد ذهب الرسل إلي ربهم وبقي أتباع الرسل يقتفون آثارهم يبلغون قومهم ولكن العمل الصالح في الإسلام ليس كله سواء ، فالإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذي عن الطريق.
ثم يشرح صلى الله عليه وسلم المفهوم الصحيح لأبواب الخير والعمل الصالح فنجد : التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل صدقة ، والأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر صدقة ، وأن تعزل الشوكة عن طريق الناس والعظم والحجر ، وأن تهدي الأعمى، وأن تسمع الأصم والأبكم حتى يفقه ، وأن تدل المستدل على حاجة له قد علمت مكانها ، وأن تسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وأن ترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف ، و أن تلقى أخاك بوجه طلق وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك.
وقد أراد أناس مساواة أعمال الخير ببعضها دون تفاضل بينها ، فجاء الإسلام ليجعل ميزان العمل الصالح واضحاً محدداً : ” أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين ” ” الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون ” وبهذا تستقيم الموازين وتعتدل المقاييس فالأمر لا يتعلق بصلاة وصيام فحسب بل يسبقه فهم واع، وإدراك دقيق لواجبات الوقت،وحاجات الناس والمجتمعات.
ونسوق طرفا من الأحاديث والآثار الدالة على عمق هذا المعنى وشمول مفهوم العمل الصالح حيث يقول نبينا صلى الله عليه وسلم عن أناس ” تحقرون صلاتكم إلي صلاتهم وصيامكم إلى صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ” ويقول الإمام محمد بن المنكدر : بت أداوي رجل أمي، وبات أخي يصلي ولا يسرني ليلتي بليلته .
كما نصح عبدُ الله بنُ المُبارك أخاه الفضيل بن عياض:
يا عابدَ الحَرَمينِ لوْ أبصرْتَنا لَعلمْتَ أنّك في العبادةِ تَلْعبُ
مَنْ كان يَخْضِبُ خدَّهُ بدموعِهِ فَنُحُورُنا بِدِمَائِنا تَتَخَضَّبُ
هذا كتابُ اللهِ ينطِقُ بَيْنَنا ليس الشَّهيدُ بميِّتٍ لا يُكْذَبُ
فلمّا قرأه الفضيل بن عياض ذَرَفتْ عيناه وقال: صَدَق أبو عبد الرّحمن ونصحني، ثمّ قال: حدّثنا منصورٌ بنُ المُعْتَمِرِ عن أبي صالحٍ عن أبي هريرةَ أنّ رجلاً قال: يا رسولَ الله علّمني عملاً أنال به ثوابَ المُجاهدين في سبيل الله، فقال: هل تستطيعُ أنْ تصلّيَ فلا تَفْتُرَ، وتصومَ فلا تُفْطِرَ؟ فقال: يا رسول الله أنا أضعفُ من أنْ أستطيعَ ذلك، ثُمَّ قال النَّبيُّ، صَلَّى الله عليه وسلم: فو الذي نفسي بيده لو طُوِّقْتَ ذلك ما بلغْتَ المجاهدين في سبيل الله “. ويروى أن عبد الله المبارك خرج في طريق الحج ، ومات لهم طائر فأمر غلمانه بإلقائه في مزبلة الطريق فرأى فتاة جاءت وأخذت الطائر الميت فسألها عن شأنها فاخبرته أنها وأخاها من الفقراء، وأن أباها قد قتل وسلب ماله، وأن الميتة تحل لهم فقال لخادمه كم معنا من المال؛ فقال: ألف دينار؛ فقال: أبق منها عشرين نرجع بها إلى بيوتنا وأعط الباقي لهذه الفتاة فهذا أفضل من حجنا لهذا العام ثم رجع و لم يستسغ أن يذهب إلى الحج ويتعلق بأستار الكعبة باكياً مخلفاً وراءه من يأكل الميتة مشرفاً على الهلاك، وهاهو النبي عليه الصلاة والسلام يقول : (أَحَبُّ النَّاسِ إلى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخِ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ- شَهْرًا، وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لَهُ أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامِ).
ويقول الحسن البصري رحمه الله: “يقول أحدهم: أحج أحج. قد حججت، صِلْ رحمًا، نَفِّسْ عن مغموم، أحسنْ إلى جار” رواه الإمام أحمد في “الزهد” وهاهو الإمام أحمد رحمه الله يقول عن المال : “يضعها في أكباد جائعة أحبُّ إليَّ -يعني من حج النافلة ، فالعمل الصالح ميدان رحيب فسيح يمتد إلي بناء الفرد وإقامة الأسرة وإرشاد المجتمع وتحرير الأوطان وإصلاح الحكومات ونشر الخير في ربوع العالمين،ولا يغني هذا التنوع والشمول عن حضور القلب بالذكر فيلهج اللسان بالتبسيح والتحميد والتهليل وفقًا لما أمرنا به المصطفى صلى الله عليه وسلم في عشر ذي الحجة ، فالتسبيح تنزيه عن النقص والشبيه والنظير والولد ، والتحميد حمداً يوافي النعم نعم الإسلام والإيمان والأخوة والدعوة والهداية للعمل الصالح ، والتكبير تكبير لله الأعز الأجل الأعظم منزل الشرع الحكيم ، والتهليل تهليل لله المعبود فلا رب لنا سواه، ولا معبود لنا إلا إياه، وبذلك تعمل هذه الأذكار عملها في القلب والنفس فينطلق العبد في مجالات العمل الصالح ، الذي لا يعدله فيهن إلا الشهادة في سبيل الله بالنفس والمال والشهادة في سبيل الله أن تشهد أن الله أكبر، أن الله أعظم فتنحاز إلي الحق فتشهد علي ذالك بتقديم نفسك ومالك فتبيع والله يشتري.