الحذر والانضباط في الإسلام
إن أعظم ما يسعى إليه أعداء هذا الدين، ولاسيما في هذا العصر، إنما هي محاولة اختراق الصف الإسلامي بواسطة نفر من داخله، أو من خارجه لضربه أو على الأقل إجهاضه؛ فلا يؤتي ثماره إلا بعد تكاليف كثيرة، وزمن طويل.. وإنما يتمكن هؤلاء من تحقيق هذه المحاولة، والوصول إلى المراد عند عدم الانتباه، وفقدان الوعي وشيوع التفريط وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً(النساء:102).
وحتى يقي الصف الإسلامي نفسه من الوقوع في هذا الشَّرَك أو في هذا الخطر لزم أن يكون بنيان الشخصية المسلمة قائماً على أساس من الانتباه الشديد، والوعي التام، والجدية، وعدم التفريط،
وأول خطوة في هذا الأساس إنما تبدأ بالتذكير وتصحيح المفاهيم، ووضع النقط على الحروف.
أولاً: تعريف الحذر والانضباط في الإسلام:
أ- الحذر: لغة: يطلق الحذر في اللغة على عدة معانٍ، نذكر منها:
1- اليقظة وشدة الانتباه والوعي، تقول: رجل حَذِر، وحَذُر أي متيقظ واعٍ، منتبه.
2- الأهبة والاستعداد، تقول: رجل حاذر أي متأهب معد كأنه يحذر أن يفاجأ، ومنه قوله تعالى: {$ّإنَّا لّجٌمٌيعِ حّاذٌرٍونّ >56<}(الشعراء)، أي متأهبون معدون. 3- الخيفة أو الخوف والخطر، تقول: حذره، يحذره، حذراً.. أي خافه وتوقع منه خطراً، ومنه قوله تعالى: {ّيٍحّذٌَرٍكٍمٍ الله ٍ نّفًسّهٍ}(آل عمران:28)، أي يخوفكم نفسه. 4- الإباء والامتناع، قال تعالى: {فّإن لَّمً تٍؤًتّوًهٍ فّاحًذّرٍوا}(المائدة:41)، أي امتنعوا، وتأبوا. 5- كتمان السر، قال تعالى: {إنَّ اللهّ مٍخًرٌجِ مَّا تّحًذّرٍونّ >64<}(التوبة)، أي مظهر ما تكتمون، وما تخفون. ولا تعارض بين هذه المعاني جميعاً، نظراً لأن كل واحد منها يعبر عن جانب من جوانب الحذر، فمثلاً المعنى الأول والثاني يعبران عن حقيقة الحذر، والمعنى الثالث يعبر عن الباعث الذي يحمل على الحذر، والمعنى الرابع يعبر عن الغاية من الحذر، والمعنى الخامس يعبر عن أهم وسيلة توصل إلى الحذر.
اصطلاحاً: وعليه فإن الحذر اصطلاحاً هو توقع خطر أو مكروه يبعث على أخذ الأهبة والاستعداد من كتمان السر، ومن التورية ومن الحركة الدقيقة المحسوبة ونحوها، مع اليقظة التامة، والوعي الكامل، والانتباه الشديد، امتناعاً من العدو، وتفويتاً لأي فرصة يحاول النفاذ منها إلى الصف. قال الشيخ محمد عبده عند تفسير آية: {يّا أّيٍَهّا الذينّ آمّنٍوا خٍذٍوا حٌذًرّكٍمً}(النساء:71):
الحَذَر، والحذْر: الاحتراس، والاستعداد لاتقاء شر العدو، وذلك بأن تعرف حال العدو، ومبلغ استعداده، وقوته، وإذا كان الأعداء متعددين فلابد في أخذ الحذر من معرفة ما بينهم من الوفاق، والخلاف، وأن تعرف الوسائل لمقاومتهم إذا هجموا، وأن يعمل بتلك الوسائل، فهذه ثلاثة لابد منها، وذلك أن العدو إذا أنس غرة منا هاجمنا، وإذا لم يهاجمنا بالفعل كنا دائماً مهددين منه، فإن لم نهدد في نفس ديارنا كنا مهددين في أطرافها، فإذا أقمنا ديننا أو دعونا إليه عند حدود العدو، فإنه لابد أن يعارضنا في ذلك، وإذا احتجنا إلى السفر إلى أرضه كنا على خطر، وكل هذا يدخل في قوله «خذوا حذركم» كما قال في آية أخرى: «واعدوا لهم ما استطعتم من قوة.. إلخ».
وعلى النفوس المستعدة للفهم أن تبحث في كل ما يتوقف عليه امتثال الأمر من علم، وعمل، ويدخل في ذلك معرفة حال العدو، ومعرفة أرضه وبلاده: طرقها، ومضايقها، وجبالها، وأنهارها، فإننا إذا اضطررنا في تأديبه إلى دخول بلاده، فدخلناها ونحن جاهلون لها، كنا على خطر وفي أمثال العرب: «قتلت أرض جاهلها» وتجب معرفة مثل ذلك، من أرضنا بالأولى، حتى إذا هاجمنا فيها لا يكون أعلم بها منا، ويدخل في الاستعداد والحذر معرفة الأسلحة، واتخاذها، واستعمالها، فإذا كان ذلك يتوقف على معرفة الهندسة، والكيمياء، والطبيعة، وجر الأثقال؛ فيجب تحصيل كل ذلك، كما هو الشأن في هذه الأيام، ذلك أنه أطلق الحذر، أي ولا يتحقق الامتثال إلا بما تتحقق به الوقاية، والاحتراز في كل زمن بحسبه – يريد يرحمه الله تعالى – أنه يجب على المسلمين في هذا الزمان اتخاذ أهبة الحرب المستعملة فيه من المدافع بأنواعها، والبنادق، والبوارج المدرعة، وغير ذلك من أنواع السلاح، وآلات الهدم، والبناء، وكذلك المناطيد الهوائية، والطائرات، وأنه يجب تحصيل العلم بهذه الأسلحة، والآلات، وغيرها، وما يلزم لها، والعلم بشأن الفنون، والأعمال الحربية، وهي تتوقف على ما أشار إليه في الكلام الآخر كتقويم البلدان، وخرت الأرض.
ب- الانضباط:
لغةً: يطلق الانضباط في اللغة على عدة معانٍ، نذكر منها:
1- لزوم الشيء وحبسه، ونقول: ضبطه، وضبط عليه، يضبط ضبطاً، وضباطة لزمه وأمسك به دائماً من غير فراق.
2- حفظ الشيء بحزم وقوة، تقول: ضبط الشيء حفظه بالحزم، ورجل ضابط أي حازم.
3- أخذ الشيء على حبس وقهر، تقول: ضبط الرجل بالكسر، يضبط، وضبطه وجع أي أخذه وجع، وتضبط الرجل: أخذه على حبس وقهر.
4- القوة على العمل، تقول: رجل ضابط أي قوي على عمله، وفلان لا يضبط عمله إذا عجز عن ولاية ما وليه. ولا تعارض بين هذه المعاني جميعاً؛ إذ منها ما يتناول حقيقة الانضباط مثل المعنيين الثاني والثالث، ومنها ما يتناول حدوده ونهايته مثل المعنى الأول، ومنها ما يتناول الوسيلة المؤدية إليه مثل المعنى الرابع. اصطلاحاً: وعليه، فإن الانضباط اصطلاحاً، إنما هو أخذ الأمر بحزم وقوة، بل وحفظه إن اقتضت الحال ذلك، مع الملازمة والدوام والاستمرار لئلاً يتفلت أو يضيع.
أما الانضباط التنظيمي:
فإنما هو أخذ التعاليم التنظيمية بحزم وقوة، بل وحفظ ما توجب الحال حفظه من هذه التعاليم مع الدوام، والاستمرار والملازمة. وعلاقة الحذر بالانضباط التنظيمي إنما هي علاقة العام بالخاص، فهما يلتقيان في أخذ التعاليم التنظيمية بحزم وقوة، وينفرد الحذر فيما زاد على ذلك من كل الصور التي قدمنا نقلاً عن الإمام محمد عبده. ثانياً: الحذر والانضباط التنظيمي: ينظر الإسلام إلى الحذر، والانضباط التنظيمي، على أنهما واجبان وجوباً عينياً لا يليق بمسلم رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيا ورسولا أن يغفل عنهما أو أن يفرط فيهما:
1- للأوامر الشرعية الصريحة الداعية إلى الحذر والانضباط، كقوله تعالى: {وّاعًلّمٍوا أّنَّ اللهّ يّعًلّمٍ مّا فٌي أّنفٍسٌكٍمً فّاحًذّرٍوهٍ}(البقرة:235)، وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا 102(النساء)،
2- و لهديه في ذلك: إذ جاء في وصف خلقه : «أنه كان يحذر الناس – أي الذين لا يعرفهم – ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره، ولا خلقه»، وجاء في سيرته أنه [ كانت له عيون وجواسيس في مكة يأتونه بالأخبار،
وآية ذلك أنه [ لما نقضت قريش العهد أخبروه الخبر، فتجهز واستعد لفتح مكة، وكان قلما يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها. وأمر [ بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل يوم «بدر»، ولما انتهى خبر نقض يهود بني قريظة العهد مع رسول الله [ ومع المسلمين يوم «الأحزاب» إلى النبي [ بعث سعد بن معاذ، وهو يومئذ سيد الأوس، وسعد ابن عبادة وهو يومئذ سيد الخزرج، ومعهما عبدالله ابن رواحة، وخوات بن جبير، قال: «انطلقوا حتى تأتوا هؤلاء القوم، فتنظروا أحق ما بلغنا عنهم، فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد المسلمين، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس»، فخرجوا حتى أتوهم وعرفوا خبرهم، ثم أقبل السعدان، ومن معهما إلى رسول الله [ فسلموا عليه، ثم قالوا: «عضل والقارة»، أي كغدرهم بأصحاب الرجيع: خبيب وأصحابه، إلى غير ذلك من الأخبار التي تؤكد أن الحذر كان من هديه [ مع عدوه. 3- ولأن الطريق لحماية الصف من اختراق الأعداء واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. 4- ولأن الأعداء – وهم على الباطل – يسلكونه، ويؤكدون عليه في حربهم للإسلام وأهله إلى حد أنه لو ثبت لديهم أن واحداً أفشى سرهم قتلوه وتخلصوا منه، وإذا كان هذا هو شأن الأعداء وهم على الباطل، فأولى بنا نحن المسلمين ونحن على الحق أن نحرص على هذا الأمر، وألا نفرط فيه قيد أنملة أو قيد شعرة.