قطب العربي يكتب : صحفيون وعسكر.. معركة العيش قبل الحرية
يخطئ من يتصور أن معركة الصحفيين مع العسكر تقتصر فقط على الجانب المتعلق بضمانات الحرية التي اغتصبت منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013 أو بالكرامة التي تبعثرت يوم 1 مايو باقتحام نقابة الصحفيين، بل هي تشمل أيضا -وبدرجة أكبر قضية- العيش أي الجانب الاقتصادي المتعلق بتكاليف المعيشة، ولا غرو أن الشعارات الثلاثة لمعركة الصحفيين مع العسكر هي ذاتها شعارات ثورة يناير، حتى وإن حرص البعض -لمخاوف أو مؤامرات- على تحجيم المعركة في إطار نقابي ضيق.
صحيح أن ظاهر المعركة يخص الحريات التي يعتبر الصحفيون أنفسهم طليعة المدافعين عنها، وصحيح أن القشة التي قصمت ظهر البعير تعلقت بالكرامة (اقتحام النقابة) لكن الصحيح أيضا أن الجمهور المهموم بهاتين القضيتين يظل هو الأقل عددا قياسا بجمهور القضية الأهم المتعلقة بلقمة العيش والتي يشترك فيها جميع الصحفيين على اختلاف مشارهم بين معارضة وموالاة للسلطة.
كان الظهور الأول للمتاعب الاقتصادية من نصيب بعض الصحف الحزبية والخاصة قبيل وعقب ثورة 25 يناير 2011 مباشرة، لكنه ظل محدودا في تلك الصحف، التي أغلقت أبوابها نتيجة تعثرها المالي، وبالتالي سرحت الصحفيين والعاملين بها، والذين نظموا اعتصامات وحتى إضرابات عن الطعام بمقر نقابتهم لحث السلطة على التدخل لحل مشكلتهم بتوزيعهم على الصحف القومية دون جدوى، ربما خفف من وطأة إغلاق تلك الصحف ازدهار صحف وقنوات أخرى نتيجة أجواء الحرية التي وفرتها الثورة.
وفي الوقت نفسه تدفق أموال خليجية لإنشاء أو دعم صحف أو قنوات عقب الثورة في تحرك يستهدف صناعة أذرع إعلامية لتلك الدول والأجهزة المخابراتية لضرب الثورة المصرية وإفشال حكم جماعة الإخوان المسلمين، وقد استوعبت تلك الصحف والقنوات عددا كبيرا من العاطلين من أبناء تلك الصحف المتوقفة، لكن المشكلة عادت لتطل برأسها من جديد مع توقف الدعم الخليجي من جهة وتزايد القمع السياسي من جهة أخرى وهو ما أنتج صحافة غير مقروءة وقنوات وبرامج غير مشاهدة، دفعت العديد من الصحف والقنوات لتقليص نشاطها بالتحول من صحف ورقية إلى إلكترونية، وبتقليص عدد القنوات التي تمتلكها الشبكات التليفزيونية ، وهذا ما استتبعه بطبيعة الحال تسريح أعداد كبيرة من الصحفيين والإعلاميين.
وهنا تكمن قضية “العيش” التي أشرنا إليها، فهؤلاء الصحفيين والإعلاميين الذين وجدوا أنفسهم فجأة بلا عمل حين يفكرون في جوهر المشكلة سيجدونها مرتبطة بالحكم العسكري القائم الذي يحارب حرية الصحافة والذي يتحرك فعليا لتقليصها إلى أدنى حد ممكن، ولا يهمه مسألة الأعداد التي ستفقد وظائفها حتى لو كانوا من بين أنصاره الذين ساهموا في تشويه حكم الإخوان من قبل وحشدوا لمظاهرات 30 يونيو ثم دعموا انقلاب الثالث من يوليو، فكل ما يهم السلطة الحاكمة هو السيطرة الكاملة على المجال الإعلامي تماما، كما كان وضع الإعلام في الخمسينات والستينات، ولنتذكر هنا مقولة عبد الفتاح السيسي في أحد لقاءاته بالصحفيين “يا بخت عبد الناصر بإعلامه”، وهي مقولة تلخص رؤية السيسي للصورة المثلى التي ينبغي الوصول إليها للمنظومة الإعلامية، ويسند هذه المقولة مقولات أخرى للسيسي منها قوله “اسمعوا كلامي أنا فقط” و”موش عايز حد يتكلم في الموضوع ده تاني” وكان يقصد موضوع جزيرتي تيران وصنافير.
في السعي لتطبيق رؤيته لإحكام قبضته على الإعلام ( والعودة لصيغة الستينات) مارس رجال السيسي ضغوطا مكثفة على ملاك الصحف والقنوات الفضائية التي تتبنى بعض المواقف النقدية لبعض سياساته أو مواقفه، رغم أن تلك الصحف والقنوات لعبت دورا محوريا في وصوله إلى السلطة ودعمه خلال الفترة الماضية، والهدف العاجل هو ترويضها، ومنعها من نشر مواد نقدية، أما الهدف الاستراتيجي فهو التخلص منها إما بإغلاقها بقرار من مالكها أو بتحويل ملكيتها لجهات أخرى أكثر التصاقا بالسلطة سواء بتمويلات داخلية أو خارجية، وفي كل الأحوال فإن المتضرر ماديا من ذلك سيكون هم الصحفيون أنفسهم، أما الوطن والشعب فسيتضرران من غياب الحرية وتنوع المعلومات.
من تلك الضغوطات ما حدث مع صاحب جريدة المصري اليوم صلاح دياب الذي داهمت الشرطة منزله فجرا ( قبل أسابيع) وقيدت يداه بزعم اتهامه في قضية كسب غير مشروع، وقامت بتصويره وهو في تلك الحالة لتوزع صوره على وسائل الإعلام لاحقا بغرض إهانته، والرسالة واضحة أن دياب الأكثر قربا من الولايات المتحدة ليس معصوما من الإهانة، وتلك رسالة لغيره من رجال الأعمال خصوصا من ملاك الصحف والقنوات، وقد فهم دياب الرسالة وتدخل قبل أيام لتعديل السياسة التحريرية لصحيفته في التعامل مع أزمة اقتحام نقابة الصحفيين.
كما تعرض رجال أعمال آخرون مالكون لقنوات فضائية لضغوط متنوعة، تعتمد جميعها على مخالفات ومستحقات مالية، ناهيك عن الضغوط السياسية وخفض سقف حرية الصحافة إلى أدنى حد، ونجحت تلك الضغوط في دفع رجل الأعمال نجيب ساويرس للتخلص من قناة أون تي في ببيعها لرجل الأعمال أحمد أبو هشيمة الذي ترجح التكهنات أنه مجرد غطاء أو واجهة لجهات أمنية وتمويلات خليجية في الأغلب (ويدعم هذا القول بروز اسم ياسر سليم رجل المخابرات الذي تحول مؤخرا إلى رجل أعمال كوكيل إعلاني للقناة بعد نقل ملكيتها، وقد أكد ساويرس نفسه الأسباب التي دفعته للتخلص من قناته وهي أنها سببت له صداعا ومشاكل مع كل الأطراف وخاصة السلطة، رغم شعوره بالأسف على فراقها، وإلى جانب صفقة أون تي في هناك في الأفق صفقات أخرى يجري ترتيبها ومنها مجموعة دريم وشبكة الحياة وسي بي سي، وحتى المحور، ومن المعروف أن تلك القنوات أجرت تقليصات لعدد من العاملين فيها ولرواتبهم خلال الفترة الماضية مع تراجع مدخولاتها الإعلانية.
أغلب الظن أن الأموال التي ستضخ لشراء تلك القنوات لن يكون همها الأول هو الربح، فهو أمر مستبعد في مصر حاليا، ويزداد صعوبة مع إغلاق المجال السياسي وأجواء الحرية في البلاد، لكن ما يهم من يقف وراء تلك الأموال هو الهيمنة على المنظومة الإعلامية وتحويل مسارها بعيدا عن السياسة، مع توظيفها لدعم النظام الحاكم كلما دعت الضرورة، وفي سبيل تلك المهمة تهون الخسائر المتوقعة على ملاكها الجدد، لكن تأثير ذلك سينعكس سلبا بالتأكيد على العاملين فيها.
معركة الصحفيين والعسكر إذن لا تقتصر على أصحاب التوجهات السياسية الباحثين عن الحرية والكرامة حتى وإن كانوا هم الأعلى صوتا، بل إنها تتسع لغير المسيسين الباحثين عن لقمة العيش وهم الأكثر عددا، ودخول هؤلاء على خط المعركة يجعل من الصعب بل من المستحيل على العسكر كسبها في النهاية.