وائل قنديل يكتب : الحرية للإنسان أم للجدعان؟
قد تذرف دمعتين على شباب مصريين، حكم عليهم بالإعدام والسجن المؤبد، أمس، ثم تعود إلى متابعة تطورات القضية الأهم: معركة شوبير والطيب المنقولة على الهواء مباشرة، وتختار لنفسك طرفاً تنحاز إليه، وتشجعه، فيما شبان في عمر الزهور يعدون الأيام المتبقية قبل الذهاب إلى حبل المشنقة.
ربما تنفق بعض الوقت في مصمصة الشفاه، والحوقلة، ولعن الظلم، عندما تقرأ أن “صهيب سعد” وعمر محمد، اللذيْن ألقي القبض عليهما، مع الشابة إسراء الطويل، قبل نحو عامين، في المطعم نفسه، قد صدر عليهما حكم من القضاء العسكري بالسجن المؤبد، في قضية، كل الذين حوكموا فيها تم اختطافهم من منازلهم، ومن المقاهي، وخضعوا لأقسى أنواع التعذيب، في أثناء فترة إخفائهم قسرياً.. ربما تفعل ذلك، لكنك ستعود إلى انشغالاتك، فتعود مجدّداً إلى الغرق في تفاصيل حادث العري الطائفي في صعيد مصر، وانسحاب الزمالك من الدوري، ثم تراجعه عن القرار، وستنسى موضوع الشباب المحكومين بالإعدام، كما نسيت المئات من الأبرياء قبلهم، ليسوا من تلك الأسماء الرنانة التي تحاصرك من جهات “السوشيال ميديا” الأربع.
“صهيب وعمر” ذهبا إلى القضاء العسكري، فيما أخذت السلطة زميلتهما إسراء الطويل إلى القضاء العادي، واشتعل الفضاء الإلكتروني بقصتها، وانهمرت الحملات والبيانات والهاشتاجات، ولم تتوقف المتابعة الإعلامية لمأساتها، حتى تم إخلاء سبيلها، فاحتفل الجميع بهذا “الانتصار الصغير”، فيما ابتلع النسيان الشابين الآخرين، في ظل تعدّد القضايا التي تحتوي أسماء مشهورة، سرقت الكاميرا، حتى أفاق الجميع على عودة دوي أحكام الإعدامات بالجملة.
بارعون هم في اللعب على أوتار التصنيف والتقسيم، لينعزل كل فريق داخل فسطاطه الصغير، فتصبح “الحرية لجدعان شلتنا”، أو “لشرفاء وشريفات جماعتنا”. وفي ذلك الخندق الممتد بين الفرقاء، تنمو طحالب الاستقطاب، وتتوالد كائنات “الثورة القنفذية”، بحيث تتم استعادة تلك اللحظة الحزينة التي تسلل فيها عسكر الانقلاب، وافترسوا الحلم بالتغيير.
يظهر الوزير الشاب، باسم عودة، في قاعة المحكمة محتضنا طفلته، وكذلك زميله في السجن، أحمد عارف، المتحدّث السابق للإخوان المسلمين، وقبلهما يزأر عصام سلطان في مواجهة منصة المحكمة، فتجد هناك من يغمز ويلمز بأن هناك شيئاً ما غير مفهوم يجعل المحكمة توسع صدرها، وتسمح بنقل هذه المشاهد الإنسانية المؤثرة، ناهيك عن التلميحات السخيفة حول الحالة البدنية والمعنوية التي ظهر عليها المساجين. وفي المقابل، تحتفل صفحات المؤيدين بهذا الظهور القوي، وينزلق بعضهم إلى عقد المقارنات، والهجوم على المعسكر الآخر.
وعلى الجهة الأخرى، ينشط أصدقاء معتقلي قضية تيران وصنافير ورفاقهم في نشر صور معاناتهم خلف الأسوار، أو يطلقون حملاتٍ لجمع مبالغ الكفالات المطلوبة لإخلاء سبيلهم، بهمّةٍ وحماس شديديْن، لا يمكن مؤاخذة أحد عليهما بالطبع، فتسمع همهماتٍ، من الناحية الأخرى، عن الشللية والانتقائية، فتندلع من جديد تلك التراشقات والمهارشات الثنائية التي توفر للسلطة المناخ الآمن لالتهام كل القنافذ المشتبكة ومضغها في هدوء بالغ.
يعرّف العلماء القنفذ بأنه ذلك المخلوق الشائك الذي تبقى أشواكه الحادة في حالة استنفار، فإذا اقترب منه أحد، انتصبت أشواكه لتشكل حزاماً مدبّباً منيعاً، يفصله عن العالم، وأخشى أن أقول إن التيارات السياسية المصرية باتت مستسلمةً لسيكولوجية القنفذ، في تعاملها مع بعضها، فيما تستمتع السلطة بالفرجة، باطمئنانٍ شديد، حيث تدرك أنها ترفل في رغد البطش والاستبداد، ما دام فريق يرى في الحصول على “الحرية للجدعان” منتهى آماله، وآخر ينشد “الحرية لشرفاء وشريفات” تياره، وبينما كلٌّ مستغرقٌ في تصنيع رموزه وأيقوناته الخاصة، لا تتوقف المقصلة عن حصد المزيد من المجهولين الذين لا يعرفهم، أو يسمع أسماءهم أحد، إلا حين تصدر الأحكام، إعداماً أو سجناً مؤبداً، بحقهم.
جرّبوا مرة أن يكون مطلبكم “الحرية للإنسان”، بصرف النظر عن انتمائه، فوقائع التاريخ تنطق بأنه لا يحصل على الحرية والكرامة والعدل من يطلبها لنفسه، والمقربين منه، فقط.. واقرأوا التاريخ القريب جيداً.