فهمي هويدي : أنكون على موعد مع الهزيمة؟
كأننا على موعد مع الهزيمة فى شهر يونيو. ذلك أن مؤتمر باريس للسلام يجهزنا لهزيمة سياسية لا تقل فداحة عن هزيمة يونيو العسكرية التى حلت بنا قبل نحو نصف قرن.
(١)
أعلنت فى باريس فى الثالث من شهر يونيو «المبادرة الفرنسية من أجل السلام» التى اعتمدت المبادرة العربية ضمن مرجعياتها، وتم ذلك بعد أيام من إعلان تحالف نتنياهو وليبرمان قبول الأخيرة «بعد تعديلها». تمهيدا للدخول فى مفاوضات الحل المنشود. وشاءت المقادير أن تحل فى الخامس من شهر يونيو الذكرى التاسعة والأربعون للهزيمة العسكرية الفاضحة التى نزلت بمصر والعالم العربى فى عام ١٩٦٧. وإذ استهدفت إسرائيل آنذاك قصم ظهر العرب، فإنها هذه المرة تحيك مؤامرة تستهدف طرحهم أرضا وإعلان نهاية الصراع بمشاركة ومباركة عربية.
ألَّب علينا المواجع وذكرنا بما نسيناه أو تناسيناه الصحفى الفرنسى الكبير إريك رولو الذى ارتبط اسمه بصحيفة «لوموند» طوال أربعين عاما، فى مذكراته التى نشرت بالعربية فى القاهرة، تحت عنوان «فى كواليس الشرق الأوسط». ورغم أن المذكرات صدرت فى باريس عام ٢٠١٢، إلا أن قراء العربية لم يتح لهم ان يطالعوها إلا فى العام الحالى (بعد مضى سنة على وفاته)، من خلال ترجمة رشيقة قامت بها الدكتورة داليا سعودى، قدم لها الدبلوماسى الجزائرى المخضرم الأخضر الإبراهيمى وألان جريش محرر لوموند دبلوماتيك والابن الروحى للكاتب الراحل.
أهمية الكتاب تكمن فى أنه قدم عرضا مستفيضا لخلفيات الهزيمة التى لا يعرفها كثيرون فى العالم العربى ويتناساها الساسة الضالعون فى المؤامرة الخطرة التى تحاك الآن. وكان إريك رولو من أفضل المؤهلين للكشف عن تلك الخلفيات، ليس فقط بسبب موهبته العالية واتصالاته الوثيقة مع مختلف الأطراف التى فتحت أبوابها وأفشت أسرارها له، ولكن أيضا لأنه كان صحفيا نزيها لم يخف تأييده لحركات التحرر الوطنى وحماسه للتجربة الناصرية. وفى الوقت ذاته فإنه لم يخْفِ أيضا معارضته للمشروع الصهيونى، رغم ديانته اليهودية. ولا أعرف مدى تأثير أصوله المصرية على مواقفه، وإن كان واضحا فى كتاباته أن انتماءه إلى اليسار كان له النصيب الأكبر من التأثير الذى دفعه إلى تبنى تلك المواقف.
(٢)
لست فى صدد استعراض الكتاب الذى صدر فى ٣٧٥ صفحة، لكننى سأتوقف فقط عند بعض المعلومات ذات الدلالة التى أضافها ونسيناها، والتى يتعين استحضارها ونحن نتأهب لاستقبال رياح المؤامرة الحالية. من ذلك أن الرجل تلقى دعوة من الرئيس جمال عبدالناصر لزيارة مصر نقلها إليه الأستاذ لطفى الخولى الذى زار باريس آنذاك حاملا رسالة بذلك المضمون من الأستاذ محمد حسنين هيكل. وحين جاء إلى القاهرة فى عام ١٩٦٣ استقبله الرئيس عبدالناصر (كانت تلك بداية علاقة وثيقة ربطت بينهما) الذى قال له إن إسرائيل يجب أن تعيد الأراضى المحتلة وأن تسمح بعودة اللاجئين الفلسطينيين أو تعويضهم، أضاف عبدالناصر أنه لا يوجد مشروع لتسويه حالة الحرب لأن إسرائيل لا توافق إلا على سلام بناء على شروطها، وحين سأله إريك: ما هو الحل الذى تقترحه؟ عندئذ رد عبدالناصر عليه قائلا: إن كان لديك حل تقدمه، فيسعدنى أن آخذه فى الاعتبار.
التقط الرجل كلمات عبدالناصر واعتبرها بمثابة «بالون اختبار لجس النبض ودعوة للحوار»، على حد تعبيره، وفى أول زيارة له إلى تل أبيب، التقى رئيس الوزراء الإسرائيلى ليفى أشكول الذى اعتبره رجلا معتدلا وميالا للحلول الوسط ونقل إليه كلمات عبدالناصر، ووصف تلك اللحظة قائلا: كنت انتظر أى شىء غير رد فعله الحاد حين باغتنى قائلا: «ولا شبر واحد ولا لاجئ واحد». وكانت تلك الكلمات الوحيدة التى صدرت عنه بجفاء، وبعدها استعاد هدوءه وأجاب عن بقية أسئلته.
الموقف الذى تبناه القيادى الإسرائيلى «المعتدل» فى ذلك الوقت المبكر التزمت إسرائيل به طول الوقت فى كل مراحل المفاوضات. وقد عبر عنه المسئولون الإسرائيليون فى كل مناسبة. ذلك أنهم لم يكونوا مستعدين لأى كلام بخصوص الأرض أو عودة اللاجئين. بل كلما ازداد توسعهم فى الأرض بقوة السلاح، ازداد تمسكهم بها. وقد نقل عن نائب رئيس مجلس الوزراء إيجال ألون مثلا قوله إن: إعادة مرتفعات الجولان إلى سوريا يعنى تفكيك دولة إسرائيل. كما نقل عن وزير الخارجية أبا إيبان قوله: «إن حدود ما قبل الحرب هى حدود أوشفيتز» (معكسر الإبادة الأشهر الذى أقامه النازيون لليهود) ــ وهى نفسها الحدود التى سمحت لإسرائيل مع ذلك بالانتصار فى ثلاث حروب متعاقبة فى غضون عشرين سنة.
الرسالة هنا إن إسرائيل تعتبر كل ما وضعت أيديها عليه هو «أرض الأجداد» وعلى كل من يتطرق إلى الموضوع أن يضع المعلومة فى اعتباره. الأمر الذى يفترض أن يثير السؤال التالى: على أى شىء يتم التفاوض إذن؟
(٣)
الرسالة الأخرى التى نتلقاها من المذكرات هى أن إسرائيل ليست مكترثة بالسلام فى المنطقة، ذلك أن تسويه النزاع مع العرب قد يؤدى إلى تسديد ضربة قاتلة للمشروع الصهيونى. وهى الفكرة التى تبناها الصحفى الإسرائيلى مارك هليل الذى نشر كتابا بعنوان «إسرائيل فى مواجهة خط السلام، وأيدها علماء اجتماع إسرائيليون اعتبروا أن حروب الأعوام ١٩٤٨ و١٩٥٦ و١٩٦٧ نمَّت الوحدة الوطنية بدرجة فاقت أثر المدرسة والجيش.
أثار إريك رولو هذه النقطة فى سياق حديثه عن حوار أجراه مع بن جوريون أحد مؤسسى الدولة فى عام ١٩٦٥ ذكر فيه أن الإحساس القومى لدى الإسرائيلى تغذى ــ إضافة إلى التوراة ــ على المدرسة والجيش والاقتتال مع العرب، إلا أنه أضاف أن ذلك الصراع له الدور الأكبر فى تعميق ذلك الإحساس. وخلال ذلك الحوار كرر بن جوريون لاءات ثلاث: رفض رد شبر من الأرض ورفض أى لاجئ إضافة إلى رفض أى تسوية مع الرئيس عبدالناصر.
من النقاط المهمة التى ذكرها فى هذا الصدد أن عبدالناصر كان مقتنعا فى البداية بأن الصراع لن يحل عسكريا، ولذلك سعى إلى التوصل إلى حل عادل يلبى حدا معقولا من حقوق الفلسطينيين، إلا أن إسرائيل هى التى رفضت أى تفاهم حول الحل. آية ذلك أنه وجه الدعوة إلى ناحوم جولدمان رئيس المؤتمر اليهودى العالمى لزيارة مصر والتفاهم حول الموضوع، وقد استقبل الرجل الدعوة بحرارة وحمل الفكرة إلى تل أبيب قبل البدء فى تحريك الملف، إلا أن رئيسة الوزراء آنذاك جولدا مائير صدته ورفضت فكرة الزيارة، وما حدث مع جولدمان تكرر مع رسائل أخرى وجهها عبدالناصر للقادة الإسرائيليين، الذى رفضوا فى كل مرة دعواته للتفاهم. لأنهم لم يريدوا مخاطبة زعيم عربى له كبرياؤه ويقف على قدميه، وظلوا يؤثرون الحديث مع المهزومين والمنبطحين.
كان إريك رولو فى القاهرة خلال الأيام التى سبقت الخامس من يونيو عام ١٩٦٧، وتصاعدت فيها مؤشرات التوتر بين مصر وإسرائيل بسبب قرار عبدالناصر إغلاق خليج العقبة فى وجه السفن الإسرائيلية. فى القاهرة. أيضا تواجد السفير الأمريكى روبرت أندرسون مبعوث الرئيس الأمريكى ليندون جونسون الذى أوفده لإدارة الأزمة. وكان المبعوث الأمريكى قد التقى الرئيس عبدالناصر الذى أعرب عن رغبته فى تفادى النزاع المسلح واقترح إرسال نائبه زكريا محيى الدين إلى واشنطن فى ٧ يونيو لاستكشاف إمكانية التوصل إلى تسوية مرضية للطرفين مع موشيه ديان الذى عين لتوه وزيرا للدفاع. وإلى أن يتحقق ذلك فإن عبدالناصر ذكر أنه سيغمض عينيه عن عبور سفن الشحن الإسرائيلية ذات الطبيعة غير الاستراتيجية باتجاه ميناء إيلات عبر خليج العقبة، وفى اليوم التالى للقاء بعث عبدالناصر إلى جونسون بمضمون مقترحاته التى أكد فيها بقوة رغبته فى تسوية النزاع سلميا. إلا أن الرئيس الأمريكى خدعه وكذب عليه. ففى حين طلب منه عدم المبادرة بالنزاع المسلح، فإنه كان قد أعطى لإسرائيل موافقته على شن هجوم ضد مصر. وأدى ذلك إلى عنصر المفاجأة الذى أعطى الدولة العبرية تقدما حاسما مكنها من تحقيق مرادها.
(٤)
خطة تدمير الطيران المصرى التى حملت اسم «فوكس» كانت معدة لدى الإسرائيلين منذ عام ١٩٦٣، بعدما أدركوا أن عدوان عام ١٩٥٦، الذى شاركت فيه بريطانيا وفرنسا، لم يحقق لهم ما يريدون. ذلك أنهم خلال تلك الفترة كانوا قد جمعوا معلوماتهم وأعدوا عدتهم للانقضاض على مصر واجتياح الجيران بما يضيف إلى إسرائيل ثلاثة أضعاف مساحتها. ومع حلول صيف عام ١٩٦٧ اعتبرت قيادة الأركان الإسرائيلية أن قرار شن الحرب وتوجيه الضربة قد نضج. وكانت العقبة التى واجهتهم أن رئيس الحكومة ليفى أشكول كان محبذا للحل السلمى ورافضا فكرة الحرب الوقائية. وشهدت إسرائيل خلال تلك الفترة صراعا غير مسبوق فى تاريخها بين رئاسة الأركان والحكومة. إذ كانت تلك المرة الأولى التى يطمع فيها العسكريون فى فرض قرار سياسى على السلطة المدنية. وحسب وصف الكاتب فإن الصراع أخذ عدة أشكال. من ممارسة للضغوط وعمليات الابتزاز إلى رشق بالسباب ونصب تحديات وتهديدات مستترة بالانقلاب. فى هذا السياق دأب الجنرال «ياريف» رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية (أمان) على إرسال تقارير يوما بعد يوم تنذر بأعلى مستويات الخطر. فتارة يكتب أن طائرات مصرية حلقت فوق المنشآت النووية فى ديمونا استعدادا لقصفها. وتارة يكتب أن القوات المصرية المرابطة على الحدود تتزايد أعدادها وأعلنت حالة التأهب استعدادا للهجوم، وأن تلك القوات مزودة بأسلحة كيماوية وإشعاعية.. إلخ. الشاهد أن الحكومة تعرضت للتضليل والابتزاز. وهو ما اعترف به الجنرال رابين فى وقت لاحق، حين صرح لإريك رولو فى حوار نشر على الصفحة الأولى للموند فى فبراير عام ١٩٦٨، بأن عبدالناصر لم يكن يريد الدخول فى حرب وان تظاهر بغير ذلك. ورغم أن رئاسة الأركان الإسرائيلية كانت مدركة أنه ليست لديه نية القتال، فإنهم مارسوا ضغوطهم الشديدة على الحكومة التى وافقت أخيرا على شن الحرب. كما مارست اللوبيات الصهيونية فى واشنطن ضغوطها على الرئيس جونسون حتى انتزعت منه مباركته للقرار، إلى أن دارت الساعة ووقعت الواقعة فى الخامس من شهر يونيو. وأحدثت دويها المشهود فى العالم العربى مصحوبا بجرح كبير وعميق، لم يندمل حتى الآن.
فى المذكرات وقائع ودروس عديدة مهمة يخلص المرء منها إلى أن مصر هى المشكلة وهى الحل، وضعفها وقوتها السياسية والعسكرية والاقتصادية هى العنصر الحاسم فى المواجهة. وما لم يتحقق ذلك فإن الاستكبار الإسرائيلى سيستمر ويتزايد، ويظل كل حديث عن المفاوضات من قبيل الهراء الذى يضيع الوقت ويبدد الجهد. وهو ما يسوغ لنا أن نقول بأنه فى ظل موازين القوة الحالية فإن أى حديث عن المفاوضات يظل حلقة فى مسلسل الهزائم التى أدمنها بعض العرب. وأخشى أن يستثمر الإسرائيليون الوهن العربى المخيم لطى الصفحة واختتام المسلسل بحلقته الأخيرة التى يلوِّح فيها التحالف الفاشى فى تل أبيب بتوجيه الضربة القاضية من خلال «التوافق» مع بعض القادة العرب «المعتدلين»!